هي استسلمت
لليأس في لحظة لم يكن فيها من بادرة أمل واحدة تشي بأن الليل سينجلي..لم تقو على
انتظار التغيير.. فصنعته، على الأقل على مستوى حياتها الشخصية.
تغيير
ألقى بحجر في البركة الراكدة.. ظلت دوائرها تتسع حتى كان التغيير في بداية عام
2011، كانت آخر كلماتها: "موتي سلاحي الأخير ضد
المبتسرين وناقصى
التكوين".
ألقت الكاتبة والناشطة السياسية
أروى صالح بنفسها من الدور العاشر في 7 يونيو عام 1997، لتنهي بذلك مشوار حياتها
الذي قطعته في محاولة حل "معضلة العثور للحلم الرقيق على قدمين راسختين فى أرض
البشر الواقعيين، العيانين، اللى مضطرة أعترف ان لسه أذاهم بيوجعنى أكثر ما خيرهم بيدفينى".
..
أما هو فلم يجرب حتى البحث عن حلم
كان يؤمن بـ"مش من حقى أحلم"، فعاش واقعه كما فرضته عليه الحياة، مجرد
طفل صغير يدفع بعربة تزن 3 أضعافه، يبيع البطاطا وسط زحام الأحداث.
مرتديا "تريينج" أزرق
و"شبشب مقطوع" وشعر منعكش وابتسامه باهته، لم تفلح عدسة الكاميرا
المسلطه على وجهه أو وعود الشاب بتحقيق أمنياته في جعلها تخرج إلى وجهه.
واجهته رصاصة "ميري" كان
يحتمي في حاملها من اشتباكات الميدان ليغادر عالما قاسيا لم يرحم طفولته.. ولم
يهبه حتى نهاية تليق بحياته القصيرة المعذبة.
.....
أروى صالح واحدة من أعلام الحركة الطلابية في أوائل السبعينيات في جامعات مصر،
حيث تخرجت في كلية آداب جامعة القاهرة، الحركة التي أشعلت المظاهرات في جامعات مصر
تأثرا بحركة الطلاب الفرنسية في 1968.
هؤلاء الشباب ممن عاشوا حياة
الملاحقين وضحوا بصنع مستقبل شخصي ومواهب، فغرقوا في حياة موازية بديلة عن المجتمع
الاغتراب هو كلمة السر فيها. أحلامهم في التغيير واجهت واقع لم يمكنهم استيعابه أو
التعامل معه وكان صعبا على كثيرين أن يبلغوا صلحا مع النفس فلجأ البعض إلى أيسر
الطرق لاستعادة توازنه فارتد عن كل ما آمن به، ومنهم من لم يتخلص من إدمان الأهمية
خلق علاقات جديدة من نوع مختلف مع مؤسسات العمل المدني الدولية التي نهب من ورائها
الكثير. فكانوا جيلا من المبتسرين، كما أسمتهم أروى في كتابها الجريء والذي يحمل
نفس الاسم "المبتسورن"، قدمت فيه تحليلا ناضجا للظروف التاريخية
الاجتماعية الاقتصادية السياسية التي مسخت جيل السبعينات ومن قبله جيل الستينات.
تشكلت الحركة الطلابية من المعارضة
الماركسية مختلطة بمجموعة من الناصريين وبعض المستقلين، توهمت أنها قادرة على
قيادة الجماهير ضد نظام فاسد، إلا أن الشعب الذي كان متوحدا مع النظام حول قضية الوطن
"حرب اكتوبر 1973"، لم يتجاوب مع الحركة إلا في أضيق الحدود
"مظاهرات يناير 1977" والتي تم السيطرة عليها بقوة وحزم، وتركت قادة
الحركة في العراء.. ولم يكن أمامهم سوى أن يتخلوا عن حلم
التغيير كلا على طريقته.
..
لم يختر حياته، كان يخرج صباحا
ليجمع قليلا من الجنيهات، يسلمها ليد والده كلها في آخر النهار، أدرك بفطرة
الأرزقي أن الميدان بما يشهده من تجمعات سيكون مكانا مناسبا لمضاعفة دخله اليومي،
فتوجه إلى هناك.
وبفطرة الطفل الصغير الذي يرى في
العسكري أبو بندقية حامي وأمين، اعتاد الوقوف إلى جانب النقطة العسكرية التي تتمركز
بجانب السفارة الأمريكية في جاردن سيتي. وقوفه هناك سيحيمه من هجوم البلطجية أو
محاولات الركض التي قد تصيب عربته بأضرار بالغة.
آمن أن جنودا حاربوا من أجل الوطن،
يقفون بأسلحتهم في وجه البلطجية لم يوجهوا أسلحتهم إلى صدره، كيف يقتل النظام
شعبه؟ هكذا فكر وهكذا قتل.
...
لم تفلح ظروف التجريف الفكري
والسياسي التي بدأت بوادرها في أوائل الثمانينيات في جعل أروى ترتد عن أفكارها،
ولم تستطع أن تلين لتصبح جزءا من الواقع الجديد تناضل على مقاس حرياته، فوقفت
وحدها تحاول أن تفهم ماجرى وما يجري، وعندما وصلت إلى تصور.. أعلنته من خلال
كتابها "المبتسرون" مضحية بالبقية الباقية لها من علاقات انسانية في
الوسط الثقافي.. ذلك الذي جرحتها أشواكه، ولم ترى وروده، فكرهته وكرهت المثقفين،
وربما كرهت نفسها كذلك.
..
"تعبت من الشغلانة دي ونفسي
أغيرها".. كانت أمنية عمر الوحيدة.. تعب من دفع العربة الثقيلة، تعب من
الوقوف أمام النار ومحاولة تقليب البطاطا، تعب من معاملة الناس له باعتباره مشروع
بلطجي، وتعب من معاملة النظام له باعتباره خارج على القانون، تعب من المشوار
الطويل إلى الميدان، وتعب من الوقوف طوال اليوم من أجل حفنة جنيهات تعب، وقرر أن
يقف دون حراك في مواجهة السلاح المشهر، متحديا النظام والمجتمع والحياة، فاستقرت
الرصاصتين إحدهما في صدره والأخرى في رأسه.. وسقط ميتا على الفور.. سقط دون أن
يدرك أنه لم يكن وحده.
....
تتسائل أروى في الرسالة التي
ضمنتها كتابها الأشهر: "هل أفلحت بعد كل الرحلة الطويلة الشاقة دى،فى أن أصبح
كائن صالح للتعامل مع العالم الواقعى، دون أن يفقد اما توازنه واما حلمه؟"
الإجابة لم تكن واضحة في ذهنها في تلك اللحظة لكنها أصبحت إجابة جاهزة أمامنا دون
الحاجة إلى التساؤل، لم تستطع أروى أن تحافظ على توازنها في عالم واقعي سقطت فيه
كل القيم التي آمنت بها على كل المستويات الوطنية والشخصية، اختل توزانها وسقطت من
الدور العاشر، لتكشف عن اختلال توازن العالم ذلك الذي لم ينتبه إليه أحد ربما لأن
التي قررت أن تنهي حياتها مجرد "إمرأة مثقفة" لديها كما قد يتصور البعض
هموما برجوازية تؤرقها.. ظل العالم مائلا حتى كان سقوط آخر لبائع البطاطا الذي لم
يفلح هو أيضا في التعامل مع العالم الواقعي سقط لأنه ظل حبيس عالم خيالي يحمي فيه
العسكري طفل صغير.