لن أنسى هذه الأيام, التي أخرج فيها متأخرة من العمل, في هذه الصحراء التي تصلب فيها الأبنية الأسمنتية غير مبالية بتغير الجو من الصيف الحارق للشتاء الذي يحمل لسعة خاصة هنا,,,,
أركض نحو الميكروباص مملوءة بأمنيتين بسيطتين إما أن يتكرم السائق بترك النور مضاء لأتمكن من إكمال الرواية التي تأخذ أنفاسي معها من فرط إعجابي بها أو أن يملك ذوقا موسيقيا مناسب لحالة التماهي مع ذاتي التي أعيشها هذا الشتاء!
نعم الشتاء, لم أتخيل يوما أن أشعر بهذه الحالة في جو الشتاء, دوما كنت أصدق أن الشتاء لأجل العمل والنوم والصيف لأجل أن نعيش الحياة.. لم يتغير شيء في النظرية, ربما تطبيقها بحذافيرها هو سر انتشائي, فأنا في الحقيقة أذهب للعمل وأعود للبيت لأنام, محملة في الرحلة الطويلة من العمل للبيت بحالة هدوء تجعلني استمتع حتى بالوقت الذي لا يجود فيه عليا الزمان بإحدى الأمنيتين في رحلة عودتي المسائية, أظل أرقب الشارع مفسحة مجالا للهواء البارد كي يصطدم بوجهي من فتحة صغيرة في الزجاج, وأدور حول أفكاري التي تأتيني كما موج البحر متهادية, تعيدني لسؤالي الدائم: لماذا لا توجد موسيقى تصويرية في الكون, تظهر في هذه الأوقات التي نحتاجها كخلفية تزيد من استمتاعنا باللحظة؟
قد لا توجد إجابة منطقية على سؤالي وقد يتبرع أحدهم بترشيح التكنولوجيا الحديثة التي تسكب الموسيقى سكبا على أذنيك,, أعرف هذه الطرق, ولا أنكر أهميتها, فقط أفكر في جمالية هبوط الموسيقى فجأة على الروح من اللامكان,, أثناء مرور السيارة المسرعة في الطريق ذي الإضاءة المتقطعة مع اصطدام الهواء البارد بوجنتيك.... أكاد أكتب شعر,, بل أكاد أحب الشتاء,,
دخلت إلى رواية نون متجردة من كل الأفكار المسبقة, رغبت في قراءتها لأني أرغب في التعرض لكتابة سحر الموجي ولأني وضعته على أجندة قراءاتي ولا أفضل إهمال ما ورد فيها.
بدايتها شعرت بالحماس الشديد مع السرد المختلف على لسان الآلهة "حتحوت" ومع مفتتحات الفصول التي جعلت الأمر يدور وكأنه في عالم "الحواديت" المليء بالدهشة,,
لكن حماسي ما لبث أن فتر, إذ أن الشخصيات التي تحاول حتحوت اللعب في مصائر حكايتها جاءت منمطة وتقليدية ولا تحمل في طياتها عمقا يكفيها مشقة المراقبة المستديمة والحنان الذي تغدقه عليهن.
وقعت سحر الموجي في فخ التكرار لنفس الأفكار دون أن تكلف نفسها جهد إعادة التفكير فيها, فخرجت الرواية مهترئة من كثرة المعالجة, تدق على أبواب مفتوحة أصلا وربما تكون مكسرة.
فجميع الشخصيات النسائية لديها ذات العقد التي تتراوح بين رجل غير متفهم لطبيعتها "المتفردة" أو رجعي ولا يقبل اختلاطها بالآخرين (هؤلاء الآخرين هم خطيبها السابق الذي تنزل لملاقته كي تحل له مشاكله الزوجية) أو مخادع, وغير واضح,, وكي لا تسقط في فكرة العنصرية والتحيز للمرأة ضد الرجل كانت شخصية الرجل الذي يعاني كما صديقاته من الزوجة غير المتفهمة التي لا تهتم سوى بالولد والمصاريف والماديات وتتركه يتوه عن روحه,,
للحقيقة لم تقنعني جميع تلك المشكلات التي حاولت أن تدخل فيها شخصياتها, لا تنطوي على صراع حقيقي , بل أزمة متوهمة لدى الجميع .. الفكرة التي أسست لها عن مجتمع السردين الذي لا يقبل تأخر البنت عن الثانية عشر والذي يخشى على الفتيات من المظاهرات.
أفكر على مدار المدة التي قرأت فيها الرواية أن خللا ما يوجد في البناء المنطقي للرواية أو للفكرة التي تحاول التأسيس لها
أفكر أني امرأة صعيدية ونشأت في بيت محافظ ومثقفة وأمارس أنشطتي المختلفة, اخرج في مظاهرات (للحق لي مدة لم افعل) وأسهر مع أصدقائي وتزوجت رجلا متفهما ومثقفا , يكملني وأكمله, ولازالت طريقتي في الحياة هي ذاتها لم يتغير منها شيء,, لم يقف أهلي المتحفظون في وجه حريتي ولم يقهر الرجل الذي تزوجته أنوثتي!
وأفكر أن الرواية تحاول أن تشق طريقا ثم تمهده, المؤسف أنها طريقة ساذجة جدا, لم تستطع الوصول إلى عمق النفس البشرية والوقوف على حقيقتها, دارت حولها بسطحية, قدمت حلولا كلها تدور حول فكرة الصوفية , أو الوصول للنيرفانا لتحقق اعلى تواصل بينك وبين نفسك فتستمع إلى صوتك الداخلي لتعرف كيف يمكن أن تريح قلبك, تعيد اكتشاف ذاتك.
وهي وصايا مكرورة, يمكن الاستماع اليها بنفس الصياغة تقريبا عبر الميديا, لم تقدم اجتهاد محسوس لتوصيل هذه الأفكار مستفيدة من الكتابة والسرد والحبكة الروائية والتطور التصاعدي للشخصية ,لم تستطع كلماتها أن تكسر الحاجز الذي ارتفع في مواجهة شخصياتها ذات الافعال غير المبررة, إذ وقفت لغتها عند حدود لغة اليومي مستخدمة العامية في الحوار لتفسح مجالا لحالة ردح في كثير من الحوارات بين الأصدقاء.
كما أن محاولة المزاوجة بين ما تمر به الشخصيات وما يدور في العالم بداية من الاحتلال الفلسطيني الذي بات حضوره في السرد العربي مثل الكلاشيه إلى احداث 11 سبتمبر نهاية باحتلال العراق, وجميعها أحداث حضرت بمنطق نشرات الأخبار حتى في مناقشة الشخصيات, لم تقدم صورة مختلفة أو رؤية جديدة.
تضعني في مواجهة سؤال أحاول الإجابة عليه هل الرواية لا تقدم جديدا, أم أن موقفي المتحفز من عالم النسوية خصوصا من يتخذ فيه مسارات نمطية يمكن الرد عليها وقف حائلا دون تلقي جيد للعمل, لست متأكدة من الإجابة
ما اعرفه أن الرواية كنت مثيرة لاستفزازي واسئلتي وربما هذا هو ما دفعني لاكمالها!!
أنا أكتب لأننى لا أستطيع أن أقوم بعمل عادى مثل الناس الآخرين. أنا أكتب لأننى أريد أن أقرأ كتبا مثل تلك التى أكتبها. أنا أكتب لأننى غاضبٌ منكم جميعا، غاضب من الجميع. أنا أكتب لأننى أحب أن أجلس فى غرفة طوال اليوم أكتب. أنا أكتب لأننى لا أستطيع أن أقوم بدور فى الحياة الحقيقية إلا بتغييرها. أنا أكتب لأننى أريد آخرين، كلنا جميعا، العالم كله، أن يعرف أى نوع من الحياة عشناها، ونستمر نعيشها، فى اسطنبول، فى تركيا.
أنا أكتب لأننى أحب رائحة الورق والقلم والحبر. أنا أكتب لأننى أومن بالأدب وبفن الرواية، أكثر مما أومن بأى شىء آخر. أنا أكتب لأنها عادة وعاطفة. أنا أكتب لأننى أخشى أن يطوينى النسيان. أنا أكتب لأننى أحب المجد والاهتمام اللذين تجلبهما الكتابة. أنا أكتب لأكون وحدى. ربما أنا أكتب لأننى آمل أن أفهم لماذا أنا غاضب جدا، جدا، منكم جميعا، غاضب جدا.
أنا أكتب لأننى أحب أن يقرأنى الآخرون. أنا أكتب لأننى متى بدأت رواية، أو مقالا، أو صفحة أريد أن أنهيها. أنا أكتب لأن الجميع يتوقع منى أن أكتب. أنا أكتب لأن داخلى اعتقادا طفوليا بخلود المكتبات، وبالطريقة التى تجلس بها كتبى على الرف.
أنا أكتب لأنه من المثير أن نحول كل ما فى الحياة من جمال وثراء إلى كلمات. أنا أكتب ليس لأروى قصة ولكن لكى أؤلف قصة، أنا أكتب لأننى أرغب فى الهروب من النذير الذى يقول إن هناك مكانا ينبغى أن أذهب إليه، ولكن ــ تماما كما فى الحلم ــ لا يمكننى الوصول إليه. أنا أكتب لأننى لم أستطع أبدا أنا أكون سعيدا. أنا أكتب لأكون سعيدا
أورهان باموك
الروائي التركي من مقالته التي ألقاها عند تسلمه لجائزة نوبل في الآداب
أن تكتشف قدرتك على إرتكاب ذات الأخطاء وبنفس الطريقة,, وكأنك تعيد مشهدا ما بحذافيره ,,, ربما تمسك بنفسك وأنت تحاول التجويد أكثر ليخرج خطأ مناسبا لإفساد كل كل شيء ,, وكأن الأشياء في حاجة لمزيد من الإفساد
يبقىالغياب الأكثر تميزا,, إذ يضفي على الغائب هالة ترفعه لمصاف القديسين ,, يتحول في غيابه لمزار نحج إليه راغبين في استعادته ,, متغاضين عن الحضور "المختلف" لما هو بين ايدينا
وقتها يتحول الغائب إلى "نداهة" لا تستهدفالفتيات الساهرات وحدهن ولكنها تستهدف المنفلت عن الحاضر,, الذي يحافظ على أن يبقى ملتصقا بماض من صفته "المضي" مستغرقا في البحث المضني عمن "غاب"
..
نبقى متعلقين بالغياب لأننا لا نقوى على مجارة الحاضر, المفعم بكل مسببات الحياة, فنحتمي بظل الغائب في لعبة تبرر لنا غيابنا عنه!
..
يقسم الغياب /الحضور الحياة إلى اللونين الأبيض والأسود,, فيمتد العمر لوحة شطرنج نتنقل بين ألوانها دون إلتزام بقواعد اللعبة.. حضور غياب حضور ,,, غياب غياب غياب .. حتى نصحو على أن اللوحة استحالت للأسود فجأة ,, ولم يعد هناك متسعا .. للحضور
يفاجأني دائما أن ما بين الحضور والغياب الكثير من القواسم ليس بين ايا منها "الأشخاص بذواتهم" ,, بعد تحولهم لظلال تقترب وتبتعد دون ملامح محددة ,, ليس مهما من اقترب ومن ابتعد .. المسافة التي تفصلنا هي الحكم ,, ويعز من زادت المسافة معه ,, وربما هان من اقترب !